فصل: تفسير الآيات رقم (13- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏ فهو داخل في خبر القَسَم جواباً ثانياً عن القَسَم، والمعنى‏:‏ وما هو ‏(‏أي القرآن‏)‏ بقول مجنون كما تزعمون، فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مُرسَللٍ من الله وكان قد تضمن ذلك ثناءً على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عَن الله تعالى، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم‏:‏ ‏{‏معلّم مجنون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 14‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏افترى على اللَّه كذباً أم به جنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8‏]‏، فأبطل قولهم إبطالاً مؤكداً ومؤيداً، فتأكيده بالقَسم وبزيادة الباء بعد النفي، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلّغه صاحِبُهم، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خُلقه وعقلَه ويعلمون أنه ليس بمجنون، إذ شأن الصاحب أن لا تَخفى دقائقُ أحواله على أصحابه‏.‏

والمعنى‏:‏ نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مُبَلِّغِه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وَسْوَسَة‏.‏

ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب ‏{‏رسول كريم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏ النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏صاحبكم‏}‏ هنا إظهاراً في مقام الإِضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي‏.‏

والصاحب حقيقته‏:‏ ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة، ومنه قيل للزوج‏:‏ صاحبةٌ وللمسافر مع غيره صاحبٌ، قال امرؤ القيس‏:‏

بَكَى صاحبي لَمَّا رأي الدَّرْبَ دونَه ***

وقال تعالى حكاية عن يوسف‏:‏ ‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏، وقال الحريري في «المقامة الحادية والعشرين»‏:‏ «ولا لَكم مني إلا صُحْبَة السفينة»‏.‏

وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالِط في أحوال كثيرة ولو في الشر، كقول الحجاج يخاطب الخوارج‏:‏ «ألسْتُم أصحابي بالأهواز حينَ رمتم الغدر، واستبطنتم الكفر»‏.‏ وقول الفضل اللّهبِي‏:‏

كلّ له نيَّة في بُغْضضِ صاحبه *** بنعمةِ اللَّه نَقْلِيكم وتَقْلُونا

والمعنى‏:‏ أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه‏:‏ «إنه مجنون» إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة‏.‏

فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم

ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني‏.‏

ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب «الكشاف»‏:‏ «وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذِّكْرين وقايست بين قوله‏:‏

‏{‏إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19، 20‏]‏، وبين قوله‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم بمجنون‏}‏ اه‏.‏

وكيف انصرف نظرُه عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئاً لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلاً لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهي مسألة لها مجال آخر، على أنك قد علمتَ أن الصفات التي أجريت على ‏{‏رسول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19 21‏]‏، غيرُ متعين انصرافُها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغياناً يرمي بفهمه في مهاوي الضَّآلة، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون، وهذا كله مبني على تفسير‏:‏ ‏{‏رسول كريم‏}‏ بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى الله عليه وسلم أوْ هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلَع من جذره‏.‏

ولا يخفى أن العدول عن اسم النبي العَلَم إلى ‏{‏صاحبكم‏}‏ لما يؤذن به ‏{‏صاحبكم‏}‏ من كونهم على علم بأحواله، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب ‏{‏رسول‏}‏ خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فمن الإظهار في مقام الإِضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب ‏{‏رسول‏}‏ كلاهما فذكر ‏{‏صاحبكم‏}‏ لتخصيص الكلام به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم بمجنون‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والمناسبة بين الجملتين أن المشركين كانوا إذا بلغهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أنه نَزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعده استهزأوا وقالوا‏:‏ إن ذلك الذي يتراءى له هو جنّي، فكذبهم الله بنفي الجنون عنه ثم بتحقيق أنه إنما رأى جبريل القويّ الأمين‏.‏ فضمير الرفع عائد إلى صاحب من قوله‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم‏}‏ وضمير النصب عائد إلى ‏{‏رسول كريم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏، وسياق الكرم يبين معاد الرائِي والمرئي‏.‏

و«الأفُق»‏:‏ الفضاء الذي يبدو للعين من الكُرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شَفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء والمعنى رآه ما بين السماء والأرض‏.‏

و ‏{‏المبين‏}‏‏:‏ وصف الأفق، أي للأفق الواضح البيّن‏.‏

والمقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبيء عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بيّن لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال، وجُعلت تلك الصفة علامة على أن المرئي ملَك وليس بخيال لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانين إنما يتخيلونها على الأرض تابعةً لهم على ما تعودوه من وقت الصحة، وقد وَصَف النبي صلى الله عليه وسلم المَلَك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كُرسي جالس بين السماء والأرض، ولهذا تكرر ذكر ظهور المَلَك بالأفق في سورة النجم ‏(‏5 9‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى إلى أن قال‏:‏ أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12 15‏]‏ الآيات، قيل‏:‏ رأى النبي جبريل عليهما السلام بمكة من جهة جبل أجياد من شرقيّه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

الضمير عائد إلى ‏{‏صاحبكم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 22‏]‏ كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدّعوا أن جبريل ضنين على الغيب، وإنما ادعوا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم ظلماً وزوراً، ولقرب المعاد‏.‏

و ‏{‏الغيب‏}‏‏:‏ ما غاب عن عِيان الناس، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر‏.‏ والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يُطلع عليه بعض أنبيائه، ومنه وحي الشرائع، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه، ومشاهدة مَلك الوحي، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏

وكتبت كلمة بضنين‏}‏ في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء‏.‏

وحكي عن أبي عبيدٍ، قال الطبري‏:‏ هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به‏.‏

وفي «الكشاف»‏:‏ «هو في مصحف أُبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء» وقد اقتصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال‏:‏

والضَادُ في ‏{‏بضنين‏}‏ تَجمع البشرا ***

وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروَح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام‏.‏

وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العُليا، وذكر في «الكشاف» أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين مَا كانتا متواترتين إلا وقد رُويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم

والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالباً إلا نحو حُضَضضِ بضادين ساقطتين وحُظظ بظاءين مشالين وحُضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء‏.‏ فقد قالوا‏:‏ إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صَمَغ يقال له‏:‏ خولان‏.‏

ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر‏.‏

وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة، بأن قال‏:‏ «ليس هذا بخلاف الكتَّاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانَى» اه‏.‏

يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتَّاب المصاحف للقراءات المتواترة، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب‏.‏ وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس‏.‏

ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين‏.‏

وإذ تواترت قراءة ‏{‏بضنين‏}‏ بالضاد الساقطة، و‏{‏بظنين بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين‏.‏

فأما معنى ضنين بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتقّ من الضَنّ بالضاد مصدر ضَنَّ، إذا بخل، ومضارعه بالفتح والكسر‏.‏

فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحَى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلباً للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بِعِوَض تُعطونه، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهناً أو عرَّافاً يتلقّى الأخبار عن الجننِ إذ كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41 42‏]‏ فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى الله عليه وسلم بالإِشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضاً عما يخبرهم به وأن الكاهن يأخذ على ما يخبر به ما يسمونه حُلْواناً، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ ونحو ذلك‏.‏

ويجوز أن يكون «ضنين» مجازاً مرسلاً في الكِتمان بعلاقة اللزوم لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم، أي ما هو بكاتم الغيب، أي ما يوحى إليه، وذلك أنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ايتتِ بقرآن غيرِ هذا أو بَدِّلْه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏

ويتعلق ‏{‏على الغيب‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏بضنين‏}‏‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ أي حقيق بي، أو لتضمين «ضنين» معنى حريص، والحرص‏:‏ شدة البخل وما محمد بكاتم شيئاً من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه‏.‏ وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير‏.‏ والمعنى‏:‏ وما صاحبكم بكاتم شيئاً من الغيب، أي ما أخبرَكم به فهو الحق‏.‏

وأما معنى «ظنين» بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة، أي مظنون‏.‏ ويراد أنه مظنون به سوءٌ، أي أن يكون كاذباً فيما يخبر به عن الغيب، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فَعُدّي إلى مفعول واحد‏.‏ وأصل ذلك أنهم يقولون‏:‏ ظَنّ به سُوءاً، فيتعدى إلى متعلّقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولاً فقالوا ظنه‏:‏ بمعنى اتهمه، يقال‏:‏ سُرِق لي كذا وظَننْت فلاناً‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو ‏{‏أو أجِدُ على النار هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 10‏]‏، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون كما بلغه، أي أن ما بَلَّغَهُ هو الغيب لا ريب فيه، وعكسه قولهم‏:‏ ائتمنه على كذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

عطف على‏:‏ ‏{‏إنه لقول رسول كريم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏، وهذا رجوع إلى ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم، بعد أن استُطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقُدسية مصدره ومكانةِ حامله عند الله وصدققِ متلقيه منه عن رؤية محققة لا تخيل فيها، فكان التخلص إلى العَود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو على الغيب بضنين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 24‏]‏‏.‏

فإن القرآن من أمر الغيب الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفيه كثير من الأخبار عن أمور الغيب الجنة والنار ونحو ذلك‏.‏

وقد علم أن الضمير عائد إلى القرآن لأنه أخبر عن الضمير بالقول الذي هو من جنس الكلام إذ قال‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 25‏]‏ فكان المخبر عنه من قبيل الأقوال لا محالة، فلا يتوهم أن الضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير‏:‏ ‏{‏وما هو على الغيب بضنين‏}‏‏.‏

وهذا إبطال لقول المشركين فيه أنه كاهن، فإنهم كانوا يزعمون أن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41 42‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 210، 211‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221، 222‏]‏ وهم كانوا يزعمون أن الكاهن يتلقى عن شيطانه ويُسمون شيطانَه رَئيّاً‏.‏

وفي حديث فترة الوحي ونزول سورة والضحى‏:‏ أن حمالة الحطب امرأة أبي لهب وهي أم جميل بنتُ حرب قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم «أرى شيطانَك قد قلاك»‏.‏

و ‏{‏رجيم‏}‏ فعيل بمعنى مفعول، أي مرجوم، والمرجوم‏:‏ المبعد الذي يتباعد الناس من شره فإذا أقبل عليهم رجموه فهو وصف كاشف للشيطان لأنه لا يكون إلا مُتَبَّرأ منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏فأين تذهبون‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 25‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والفاء لتفريع التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنَّه وحي من اللَّه بواسطة الملك‏.‏

وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شاء ذكره‏}‏ في سورة عبس ‏(‏12‏)‏‏.‏

و ‏(‏أين‏)‏ اسم استفهام عن المكان‏.‏ وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم، أي طريق ضلالهم، تمثيلاً لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ضل الطريق الجادة فيسأله السائل منكراً عليه سلوكه، أي اعدلْ عن هذا الطريق فإنه مضلة‏.‏

ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعائكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن، فماذا تدعون بعد ذلك‏.‏

واعلم أن جملة أين تذهبون قد أرسلت مثلاً، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم‏:‏ أين يذهب بك، لمن كان في خطأ وعماية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏، وهذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 25‏]‏ ولذلك جردت عن العاطف، ذلك أن القصر المستفاد من النفي والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏ يفيد قصر القرآن على صفة الذكر، أي لا غير ذلك وهو قصر إضافي قصد منه إبطال أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن، أو قول مجنون، فمن جملة ما أفاده القصر نفي أن يكون قول شيطان رجيم، وبذلك كان فيه تأكيد لجملة‏:‏ ‏{‏وما هو بقول شيطان رجيم‏}‏‏.‏

والذكر اسم يجمع معاني الدعاء والوعظ بحسن الأعمال والزجر عن الباطل وعن الضلال، أي ما القرآن إلا تذكير لجميع الناس يَنْتَفِعون به في صلاح اعتقادهم، وطاعة الله ربهم، وتهذيب أخلاقهم، وآداب بعضهم مع بعض، والمحافظة على حقوقهم، ودوام انتظام جماعتهم، وكيف يعاملون غيرهم من الأمم الذين لم يتبعوه‏.‏

ف«العالمين» يعمّ كل البشر لأنهم مدعوون للاهتداء به ومستفيدون مما جاء فيه‏.‏

فإن قلت‏:‏ القرآن يشتمل على أحاديث الأنبياء والأمم وهو أيضاً معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فكيف قصر على كونه ذكراً‏.‏

قلت‏:‏ القصر الإِضافي لا يقصد منه إلا تخصيص الصفة بالموصوف بالنسبة إلى صفة أخرى خاصة، على أنك لك أن تجعل القصر حقيقياً مفيداً قصر القرآن على الذكر دون غير ذلك من الصفات، فإن ما اشتمل عليه من القصص والأخبار مقصود به الموعظة والعبرة كما بينت ذلك في المقدمة السابعة‏.‏

وأما إعجازه فله مدخل عظيم في التذكير لأن إعجازه دليل على أنه ليس بكلام من صُنع البشر، وإذا عُلم ذلك وقع اليقين بأنه حق‏.‏

وأبدل من ‏{‏للعالمين‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ بدل بعض من كل، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النخل من طلعها قنوان‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم‏}‏ وتقدم في سورة الأعراف ‏(‏75‏)‏‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ منكم‏}‏ للذين خوطبوا بقوله‏:‏ ‏{‏فأين تذهبون‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 26‏]‏ وإذا كان القرآن ذكراً لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر‏:‏ ‏{‏لمن شاء أن يستقيم‏}‏ من بقية العالمين أيضاً بحكم قياس المساواة، ففي الكلام كناية عن ذلك‏.‏

وفائدة هذا الإِبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاؤوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم، وهو ثناء عليهم‏.‏

وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حال بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاؤوا أن يستقيموا، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج، أي سوء العمل والاعتقاد، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون‏:‏

‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ وإما للإِعراض عن تلقيه‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني، وهو الاعتقاد، والظاهري وهو الأفعال والأقوال تشبيهاً للعمل بخط مستقيم تشبيهَ معقول بمحسوس‏.‏ ثم إن الذين لم يشاءوا أن يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط في الاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فَرَط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة‏.‏

وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإِسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإِسلامية ويَسْتَخلصون من استقرائها أحكاماً كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإِسلامية‏.‏

وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإِنسان العاقل فيما يأتي ويدع، وأنه لا عذر له إذا قال‏:‏ هذا أمر قُدِّر، وهذا مكتوب عند الله، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها، وبذلك يبطل قول الجبرية، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون تذييلاً أو اعتراضاً في آخر الكلام‏.‏

ويجوز أن تكون حالاً‏.‏ والمقصود التكميل والاحتراس في معنى لمن شاء منكم أن يستقيم، أي ولمن شاء له ذلك من العالمين، وتقدم في آخر سورة الإنسان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاءون إلا أن يشاء اللَّه إن اللَّه كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏‏.‏

والفرق بينهما أن في هذه الآية وُصف الله تعالى ب ‏{‏ربُّ العالمين‏}‏ وهو مفيد التعليل لارتباط مشيئة من شاء الاستقامة من العالمين لمشيئة الله ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعيَ المشيئة وأسبابَ حصولها المتسلسلة وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق، وبهذا الوصف ظهر مزيد الاتصال بين مشيئة الناس الاستقامة بالقرآن وبين كون القرآن ذكراً للعالمين‏.‏

وأما آية سورة الإنسان فقد ذيلت‏:‏ ‏{‏إنَّ الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ أي فهو بعلمه وحكمته ينوط مشيئته لهم الاستقامة بمواضع صلاحيتهم لها فيفيد أن من لم يشأ أن يتخذ إلى ربه سبيلاً قد حرمه الله تعالى من مشيئته الخير بعلمه وحكمته كناية عن شقائهم‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ نافية، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يشاء اللَّه‏}‏ وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان‏.‏

وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية معنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنه، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسباً‏.‏ وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عبادَه التأدب مع جلاله‏.‏

وهذا أقصى ما بلغت إليه الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية‏.‏ ومن ورائه سلك دقيق يشُدّه قد تقصر عنه الأفهام‏.‏

سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

الافتتاح ب ‏{‏إذا‏}‏ افتتاح مشوِّق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في ‏(‏إذا‏)‏ من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللاتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإِطناب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض للإِطناب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولاً كما علمت آنفاً‏.‏

وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإِنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى عن تطويل الإِطناب والتهويل‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط‏.‏

والمعربون يقولون‏:‏ خافض لشرطه منصوب بجوابه، وهي عبارة حسنة جامعة‏.‏

والقول في الجمل التي أضيف إليها ‏{‏إذا‏}‏ من كونها جملاً مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر‏.‏

وكذلك القول في تكرير كلمة ‏(‏إذا‏)‏ بعد حروف العطف كالقول في جمل ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏‏.‏

و ‏{‏انفطرت‏}‏‏:‏ مطاوع فطر، إذا جعل الشيء مفطوراً، أي مشقوقاً ذا فطور، وتقدم في سورة الملك‏.‏

وهذا الانفطار‏:‏ انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسْمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سمتها في النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختلّ ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة عن أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله‏.‏

والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضاً في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور‏.‏

وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير ‏(‏11‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا السماء كشطت‏}‏ فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والانتثار‏:‏ مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق‏.‏

وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏ فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسموتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارّة، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي‏.‏

وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لِفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعمّ الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏بعثرت‏}‏‏:‏ انقلبَ باطنها ظاهِرَها، والبعثرة‏:‏ الانقلاب، يقال‏:‏ بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «بعثر مركب من البعث مع راء ضُمت إليه»‏.‏ وقال البيضاوي قيل‏:‏ إن بعثر مركب من بعث وراء الإِثارة كبسمل اه، ونقل مثله عن السهيلي‏.‏ وأن بعثر منحوت من بعث وإثارة مثل‏:‏ بسمل، وحَوْقل، فيكون في بعثر معنى فعلين بَعَثَ وأثَار، أي أخرج وقلب، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب‏.‏

والذي اقتصر عليه أيمة اللغة أن معنى بعثر‏:‏ قلب بَعض شيء على بعضه‏.‏

وبعثرة القبور‏:‏ حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ جوابٌ لما في ‏{‏إذا‏}‏ من معنى الشرط، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات ‏{‏إذا‏}‏ الأربع‏.‏ وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت‏.‏

وعِلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب ‏{‏إذا‏}‏ إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارناً لحصول شرطه لأنّ الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عِللاً، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير‏.‏

صيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏انفطرت‏}‏ وما عطف عليه مستعملة في المستقبل تشبيهاً لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي‏.‏

وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏14‏)‏‏.‏

ونفس‏}‏ مراد به العموم على نحو ما تقدم في‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏14‏)‏‏.‏

وما قدمت وأخرت‏}‏‏:‏ هو العمل الذي قدمتْه النفس، أي عملته مقدماً وهو ما عملته في أول العمر، والعملُ الذي أخرته، أي عملته مؤخراً أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل‏.‏

والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ في سورة لا أقسم بيوم القيامة ‏(‏13‏)‏‏.‏

والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوماً من قبل وبتذكر ما نُسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير‏.‏ وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏، ووعد للمتقين، ومختلط لمن عملوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإِنذار يهيّئ النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشدّ تغلغلاً في القلب حينئذ لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقّة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك‏.‏

النداء للتنبيه تنبيهاً يشعر بالاهتمام بالكلام والاستدعاء لسماعه فليس النداء مستعملاً في حقيقته إذ ليس مراداً به طلب إقبال ولا هو موجّه لشخص معين أو جماعة معينة بل مثلُه يجعله المتكلم موجّهاً لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الإِنسان‏}‏ تعريف الجنس، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين، أي ليس المراد إنساناً معيناً، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عَقِبَه ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9، 10‏]‏ الآية‏.‏

وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإِنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏ فالمعنى‏:‏ يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركاً لأن إنكار البعث والشرك مُتلازمان يومئذ فهو من العامّ المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في ابتداء الدعوة الإِسلامية هم المشركون‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك‏}‏ استفهامية عن الشيء الذي غرّ المشرك فحمله على الإِشراك بربه وعلى إنكار البعث‏.‏

وعن ابن عباس وعطاء‏:‏ الإِنسان هنا الوليد بن المغيرة، وعن عكرمة المراد أبيّ بن خلف، وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ المراد أبو الأشد بن كَلَدَة الجُمحِي، وعن الكلبي ومقاتل‏:‏ نزلت في الأسود بن شَريق‏.‏

والاستفهام مجاز في الإِنكار والتعجيب من الإِشراك بالله، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غروراً غرّه عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل إلا أن يغره به غار، فيحتمل أن يكون الغرور موجوداً ويحتمل أن لا يكون غروراً‏.‏

والغرور‏:‏ الإِطماع بما يتوهمه المغرور نفعاً وهو ضرّ، وفعلُه قد يسند إلى اسم ذات المُطمع حقيقة مثل‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏ أو مجازاً نحو‏:‏ ‏{‏وغرتكم الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 35‏]‏ فإن الحياة زمان الغرور، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏‏.‏ وقول امرئ القيس‏:‏

أغرَّك مني أن حبك قاتلي ***

أو مجازاً نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زخرف القول غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

ويتعدى فعله إلى مفعول واحد، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم باللَّه الغرور‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 33‏]‏، أي لا يغرنكم غروراً متلبساً بشأن الله، أي مصاحباً لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي بَاء السببية كما يقال‏:‏ غره ببذل المال، أو غرّه بالقول‏.‏

وإذ كانت الملابسة لا تتصوّر ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام، فالمعنى هنا‏:‏ ما غرك بالإِشراك بربك كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقك فسواك فعدلك‏}‏ الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلاّ مشركاً‏.‏

وإيثار تعريف الله بوصف «ربك» دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإِنشاء والرفق، ففيه تذكير للإِنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ‏.‏

وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة‏.‏

والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة‏:‏ ‏{‏فعَدَّلك في أيّ صورة‏}‏ جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره‏.‏

وذكر عن صالح بن مسمار قال‏:‏ بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال‏:‏ «غره جهله»، ولم يذكر سنداً‏.‏

وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ ولكن قُصد إظهار مراتب النعمة‏.‏ وهذا من الإِطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عَليها بخصوصها، ومن مقتضيات الإِطناب مقام التوبيخ‏.‏

والخَلق‏:‏ الإِيجاد على مقدار مقصود‏.‏

والتسْوية‏:‏ جعل الشيء سويّاً، أي قويماً سليماً، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإِدراك أو الإِحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم‏.‏

والتعديل‏:‏ التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين، وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها‏.‏ وجعَلَه مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحَلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين‏.‏ وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع‏.‏

وخلق الله جسد الإِنسان مقسمةً أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين‏.‏

وفرع فعل «سواك» على ‏{‏خلقك‏}‏ وفِعل «عدَّلك» على «سوّاك» تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعاً حاصلاً في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فعدَّلك‏}‏ بتشديد الدال‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في أي صورة‏}‏ اعلم أن أصل ‏{‏أي‏}‏ أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أي شيء خلقه‏}‏ في سورة عبس ‏(‏18‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبأي حديث بعده يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏‏.‏

والاستفهام بها كثيراً ما يراد به الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه ‏{‏أيّ‏}‏ لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغاً قوياً يُتساءل عنه ويُستفهم عن شأنه، ومن هنا نشأ معنى دلالة ‏{‏أيّ‏}‏ على الكمال، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم، وإنما هي الاستفهامية، و‏{‏أيّ‏}‏ هذه تقع في المعنى وصفاً لنكرة إمّا نعتاً نحو‏:‏ هو رجل أيُّ رجل، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية، فيجوز أن يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏في أي صورة‏}‏ بأفعال خلقَك، فسوَّاك، فعدَّلك» فيكون الوقف على ‏{‏في أي صورة‏}‏‏.‏

ويجوز أن يتعلق بقوله ‏{‏ركبك‏}‏ فيكون الوقف على قوله ‏{‏فعدلك‏}‏ ويكون قوله ‏{‏ما شاء‏}‏ معترضاً بين ‏{‏في أي صورة‏}‏ وبين ‏{‏ركَبَّك‏}‏‏.‏

والمعنى على الوجهين‏:‏ في صورة أيّ صورة، أي في صورة كاملة بديعة‏.‏

وجملة ‏{‏ما شاء ركبك‏}‏ بيان لجملة ‏{‏عدَّلك‏}‏ باعتبار كون جملة ‏{‏عدّلك‏}‏ مفرعة عن جملة ‏{‏فسوَّاك‏}‏ المفرغة عن جملة ‏{‏خلقك‏}‏ فبيانها بيان لهما‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي خلقك فسوّاك فعدلك ملابساً صورة عجيبة فمحل ‏{‏في أي صورة‏}‏ محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال ‏{‏عدّلك‏}‏، أو ‏{‏ركّبك‏}‏، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصوّر بها للدلالة على تمكنها من موصوفها‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ يجوز أن تكون موصولة مَا صدقُها تركيب، وهي في موضع نصب على المفعولية المطلقة و‏{‏شاء‏}‏ صلة ‏{‏ما‏}‏ والعائد محذوف تقديره‏:‏ شاءه‏.‏ والمعنى‏:‏ ركّبك التركيب الذي شاءه قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وعُدل عن التصريح بمصدر ‏{‏ركّبك‏}‏ إلى إبهامه ب ‏{‏ما‏}‏ الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏شاء‏}‏ صفة ل ‏{‏صورة‏}‏، والرابط محذوف و‏{‏ما‏}‏ مزيدة للتأكيد، والتقدير‏:‏ في صورة عظيمة شاءها مشيئةً معينة، أي عن تدبير وتقدير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ من حصور ما يغرّ الإِنسان بالشرك ومن إغْراضه عن نعم الله تعالى بالكفر، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإِنكار المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ما غرك بربك الكريم‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إشراكك بخالقك باطل وهو غُرور، أو كالغرور‏.‏

ويكون قوله بعده‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين‏}‏ إضراباً انتقالياً من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وجزر لأن ‏{‏بل‏}‏ لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم‏.‏ ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون‏:‏ إنها تُتْبَع في اللفظ لا في الحكم، أي هو اتباعُ مناسبة في الغرض لا اتباعٌ في النسبة‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏كلاّ‏}‏ إبطالاً لوجود ما يغرّ الإِنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإِنسان في الإِشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به‏.‏

ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بل تكذبون‏}‏ إضراباً إبطالياً، وما بعد ‏{‏بل‏}‏ بياناً لِما جرَّأهم على الإِشراك وأنه ليس غروراً إذ لا شبهة لهم في الإِشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإِشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صُراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضِها بطلانُ كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا‏.‏

وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جُماع الإِجرام، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ في سورة الانشقاق ‏(‏20، 22‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ تكذبون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات‏.‏

وفي صيغة المضارع من قوله‏:‏ ‏{‏تكذبون بالدين‏}‏ إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا يقلعون عنه، وهو سبب استمرار كفرهم‏.‏

وفي المضارع أيضاً استحضار حالة هذا التكذيب استحضاراً يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء‏.‏

والدين‏:‏ الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏تكذبون بالدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9‏]‏ تأكيداً لثبوت الجزاء على الأعمال‏.‏

وأكد الكلام بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء، لأنهم ينكرون ذلك إنكاراً قويّاً‏.‏

و ‏{‏لحافظين‏}‏ صفة لمحذوف تقديره‏:‏ لملائكة حافظين، أي مُحْصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم‏.‏

وجمع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس‏:‏ وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17، 18‏]‏، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله» وهذا بصريح معناه يفيد أيضاً كفاية عن وقوع الجزاء إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثاً‏.‏

وأجري على الملائكة الموكّلين بإحصاء أعمالهم أربعةُ أوصاف هي‏:‏ الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس‏.‏

وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإِحصاء وفيها تنويهٌ بشأن الملائكة الحافظين‏.‏

فأما الحفظ‏:‏ فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر، وهو ‏(‏على‏)‏ لتضمنه معنى المراقبة‏.‏ والحفيظ‏:‏ الرقيب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه حفيظ عليهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وهذا الاستعمال هو غير استعمال الحفظ المعدّى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله‏:‏ ‏{‏يحفظونه من أمر اللَّه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالحفظ بهذا الإِطلاق يجمع معنى الرعاية والقيام على ما يوكل إلى الحفيظ، والأمانة على ما يوكل إليه‏.‏

وحرف ‏(‏على‏)‏ فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة‏.‏

وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏‏.‏

فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكّلوا على حفظه ضبطاً لا يتعرض للنسيان ولا للإِجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب‏.‏

وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإِحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهَم‏.‏

وما تفعلون‏}‏ يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك‏.‏

ودخل في ‏{‏ما تفعلون‏}‏‏:‏ الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإِنسان يُعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية‏.‏

واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإِسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط‏.‏

فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة، أي طهارة النفس‏.‏

ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوباً، أو كالمكتوب مضبوطاً لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به، أو في مغيبه أن يعرف ماذا أجري فيه من الأعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشُّهود، والخِطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحْكام والأحباس وعقود النكاح‏.‏

ومن إحاطة العلم بما يَتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع أحد من المخالطين لوظيفه أن يموّه عليه شيئاً، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلاً، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصاً على حفظ مصالح الأمة، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإِتقان أعمالها وأشدّ اضطلاعاً بممارستها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جوابٌ عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله‏:‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9، 10‏]‏ الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإِحصاء الأعمال ما هي، فبُين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الأبرار لفي نعيم‏}‏ الآية‏.‏

وأيضاً تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة ‏{‏يعلمون ما تفعلون‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 12‏]‏ وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها‏.‏

وجيء بالكلام مؤكداً ب ‏{‏إن‏}‏ ولا الابتداء ليساوي البيانُ مبيّنهُ في التحقيق ودفع الإنكار‏.‏

وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته‏.‏

و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ جمعُ برّ بفتح الباء وهو التقيّ، وهو فَعْل بمعنى فاعل مشتق من بَرَّ يبر، ولفعل برّ اسم مصدر هو برّ بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسيّ بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبَرّ وهو التقيّ‏.‏ وإنما سمي التقيّ بَرّاً لأنه بَرَّ ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتقوى‏.‏

و ‏{‏الفُجَّار‏}‏‏:‏ جمع فاجر، وصيغة فُعَّال تطّرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام‏.‏

والفاجر‏:‏ المتصف بالفجور وهو ضد البرور‏.‏

والمراد ب ‏{‏الفجّار‏}‏ هنا‏:‏ المشركون، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر‏.‏ فأما عصاة المؤمنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإِيمان‏.‏

والنعيم‏:‏ اسم ما يَنْعم به الإِنسان‏.‏

والظرفية من قوله‏:‏ «في نعيم» مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفاً حقيقة، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه‏.‏

وأما ظرفية قوله‏:‏ ‏{‏لفي جحيم‏}‏ فهي حقيقية‏.‏

والجحيم صار علماً بالغلبة على جهنم، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات‏.‏

وجملة ‏{‏يصلونها‏}‏ صفة ل ‏{‏جحيم‏}‏، أو حال من ‏{‏الفجار‏}‏، أو حال من الجحيم، وصَلْيُ النار‏:‏ مَسُّ حرّها للجسم، يقال‏:‏ صلي النارَ، إذا أحس بحرّها، وحقيقته‏:‏ الإِحساس بحرّ النار المؤلم، فإذا أريد التدفّي قيل‏:‏ اصطلى‏.‏

و ‏{‏يوم الدين‏}‏ ظرف ل ‏{‏يصلونها‏}‏ وذُكر لبيان‏:‏ أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة‏.‏

وجملة ‏{‏وما هم عنها بغائبين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلونها‏}‏، أي يَصْلون حرّها ولا يفارقونها، أي وهم خالدون فيها‏.‏

وجيء بقوله ‏{‏وما هم عنها بغائبين‏}‏ جملة اسمية دون أن يقال‏:‏ وما يغيبون عنها، أو وما يفارقونها، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي، فالثّبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى ‏{‏وما هم بخارجين من النار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏167‏)‏‏.‏

وزيادة الباء لتأكيد النفي‏.‏

وتقديم عنها‏}‏ على متعلقه للاهتمام بالمجرور، وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون حالية، والواو واو الحال، ويجوز أن تكون معترضة إذا جُعل ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 19‏]‏ بدلاً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب على الظرفية كما سيأتي‏.‏

و ‏{‏ما أدراك ما يوم الدين‏}‏‏:‏ تركيب مركب من ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية وفعل الدراية المعدّى بالهمزة فصار فاعله مفعولاً زائداً على مفعولي دَرى، وهو من قبيل‏:‏ أعلم وأرَى، فالكاف مفعوله الأول، وقد علق على المفعولين الآخرين ب ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية الثانية‏.‏

والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يَسْأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصِّل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دارٍ‏.‏

والاستفهام الثاني حقيقي، أي سئال سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول‏:‏ علمت هل زيد قائم، أي علمت جواب هذا السؤال‏.‏

ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

تكرير للتهويل تكريراً يؤذن بزيادته، أي تجاوزه حدّ الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي، وقرن هذا بحرف ‏{‏ثمّ‏}‏ الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل، فالتراخي فيها هو الزيادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً‏}‏‏.‏

في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17، 18‏]‏ إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهوَّل لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين‏.‏

وقرأه الجمهور بفتح ‏{‏يوم‏}‏ فيجوز أن يجعل بدلاً مطابقاً، أو عطف بيان من ‏{‏يومُ الدين‏}‏ المرفوع ب ‏{‏ما أدراك‏}‏ وتجعل فتحتُه فتحةَ بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى جملة فعلية وكان فعلها معرباً جاز في اسم الزمان أن يبنى على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل‏.‏

ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً مطابقاً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب على الظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏يَصلونها يومَ الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 15‏]‏، ولا يفوت بيان الإِبهام الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17‏]‏ لأن ‏{‏يومُ الدين‏}‏ المرفوع المذكور ثانياً هو عين ‏{‏يوم الدين‏}‏ المنصوب أولاً، فإذا وقع بيان للمذكور أولاً حصل بيان المذكور ثانياً إذ مدلولهما يوم متّحد‏.‏

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعاً، فيتعين أن يكون بدلاً أو بياناً من ‏{‏يوم الدين‏}‏ الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏‏:‏ لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى، أي لنَفعها، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفِع بالفعل عكسَ ‏(‏على‏)‏، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أملك لك من اللَّه من شيء‏}‏ في سورة الممتحنة ‏(‏4‏)‏‏.‏

وعموم نفس‏}‏ الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس‏.‏

و ‏{‏شيئاً‏}‏ اسم يدل على جنس الموجود، وهو متوغل في الإِبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما، أو من السياق، ويبينه هنا ما دلّ عليه فعل ‏{‏لا تملك‏}‏ ولام العلة، أي شيئاً يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أغني عنكم من اللَّه من شيء‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏67‏)‏، فانتصب شيئاً‏}‏ على المفعول به لفعل ‏{‏لا تملك‏}‏، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفساً أخرى‏.‏

وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏

‏{‏شَيْئاً والامر يَوْمَئِذٍ‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏والأمر يومئذ للَّه‏}‏ تذييل، والتعريف في ‏{‏الأمر‏}‏ للاستغراق‏.‏ والأمر هنا بمعنى‏:‏ التصرف والإِذن وهو واحد الأوامِر، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفاً للشيء فتغيير التعبير للتفنن‏.‏

والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإِرادة الاستغراق، فيعم كل الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلاً‏.‏

وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّه‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد فلفظ ‏{‏ويل‏}‏ من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود‏:‏

بُشرى فقد أنجز الإِقبال ما وعدا ***

والتطفيف‏:‏ النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطُفافة‏.‏ والطُفافَ ‏(‏بضم الطاء وتخفيف الفاء‏)‏ مَا قصر عن ملء الإِناء من شراب أو طعام، ويقال‏:‏ الطَفّ بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حَرف المِكيال مما يُملأ به وإنما يكون شيئاً قليلاً زائداً على ما ملأ الإِناء، فمن ثَمّ سميت طفافة، أي قليل زيادة‏.‏

ولا نعرف له فعلاً مجرداً إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفعله‏:‏ طفّف، كأنهم راعَوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المُطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المُكتال، ويقابله الوفاء‏.‏

و ‏{‏ويل‏}‏ كلمة دعاء بسوء الحال، وهو في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل‏:‏ اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏79‏)‏‏.‏

وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجاراً، وكان في يثرب تجار أيضاً وفيهم اليهود مثلُ أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجريْ أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب‏.‏ وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل‏.‏

والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشياً في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يُسبب ذلك‏.‏

واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلاً فقال جماعة من المفسرين‏:‏ إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك‏.‏ رواه ابن ماجه عن ابن عباس‏.‏

وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جُهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر‏.‏

فجملة الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون‏}‏ إدماج، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة‏:‏ ‏{‏وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏}‏ فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين‏.‏

والاكتيال‏:‏ افتعال من الكيل، وهو يستعمل في تسلم ما يُكال على طريقة استعمال أفعال‏:‏ ابتاع، وارتهن، واشتَرى، في معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى‏:‏

‏{‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 63‏]‏ أي نأخذ طعاماً مكيلاً، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة‏.‏

وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل، فيقال‏:‏ اكتال فلان طعاماً مثل ابتاع، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل ‏(‏من‏)‏ الابتدائية فيقال‏:‏ اكتال طعاماً من فلان، وإنما عدي في الآية بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمين ‏{‏اكتالوا‏}‏ معنى التحامل، أي إلقاء المشقة على الغير وظِلمه، ذلك أن شأن التاجر وخُلقه أن يتطلب توفير الربح وأنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة، وعن الفراء ‏(‏مِن‏)‏ و‏(‏على‏)‏ يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال‏:‏ اكتلت عليك، فكأنه قال‏:‏ أخذت ما عليك، وإذا قال‏:‏ اكتلت منك فكقوله‏:‏ استوفيت منك‏.‏

فمعنى‏:‏ ‏{‏اكتالوا على الناس‏}‏ اشتروا من الناس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل ‏{‏اكتالوا‏}‏ أي اكتالوا مكيلاً، ومعنى كَالُوهم باعوا للناس مكيلاً فحذف المفعول لأنه معلوم‏.‏

فالواوان من ‏{‏كالوهم أو وزنوهم‏}‏ عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس‏.‏

وتعدية «كالوا»، و«وزنوا» إلى الضميرين على حذف لام الجر‏.‏ وأصله كَالُوا لهم ووزنوا لهم، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة ‏(‏233‏)‏ ‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏}‏ أي تسترضعوا لأولادكم، وقولهم في المثل الحريصُ يصيدك لا الجوادُ أي الحريص يصيد لك‏.‏ وهو حذف كثير مثل قولهم‏:‏ نصحتك وشكرتك، أصلهما نصحت لك وشكرت لك، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال‏:‏ كال له طعاماً ووزن له فضة، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا‏:‏ كاله ووزنه طعاماً على الحذف والإِيصال‏.‏

قال الفراء‏:‏ هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون‏:‏ يكيلنا، يعني ويقولون أيضاً‏:‏ كالَ له ووزن له‏.‏ وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون‏:‏ كال له ووزن له، ولا يقولون إلاّ‏:‏ كاله ووزنه، فيكون فعل كال عندهم مثل باع‏.‏

والاقتصار على قوله‏:‏ إذا اكتالوا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وإذا اتَّزنوا كما قال‏:‏ ‏{‏وإذا كالوهم أو وزنوهم‏}‏ اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنباً لفعل‏:‏ «اتزنوا» لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل‏.‏ ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عيناً بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غيرَ مسكوكين، فلذلك اقتُصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظراً إلى الغالب، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلاً ويقبضون الأثمان وزناً‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم‏.‏

و ‏{‏يستوفون‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ والاستيفاء أخذ الشيء وافياً، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل‏:‏ استجاب‏.‏

ومعنى ‏{‏يخسرون‏}‏ يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة، والخسارة النقص من المال من التبايع‏.‏

وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشياً في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة‏.‏

وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلماً واختلاساً ولؤماً، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرّقة ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

استئناف ناشئ عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين‏.‏

والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يَسأل السائل عن علمهم بالبعث، وهذا يرجح أن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ موجه إلى المسلمين‏.‏ ويرجع الإِنكار والتعجيب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف‏.‏ فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين‏.‏

والظن‏:‏ مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع الشيء اعتقاداً راجحاً على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وفي العدول عن الإِضمار إلى اسم الإِشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك‏}‏ لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم، ولأنّ الإِشارة إليهم بعد وصفهم ب«المطففين» تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإِشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإِنكار‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليوم عظيم‏}‏ لام التوقيت مثل ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبُعثت أمواتُ القرون الغابرة، فأومأ قوله ‏{‏ليوم‏}‏ أن للبعث وقتاً معيناً يقع عنده لا قبله‏.‏

ووصف يوم ب ‏{‏عظيم‏}‏ باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال، فهو وصف مجازي عقلي‏.‏

و ‏{‏يوم يقوم الناس لرب العالمين‏}‏ بدل من «يوم عظيم» بدلاً مطابقاً وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏19‏)‏ على قراءة الجمهور ذلك بالفتح‏.‏

ومعنى يقوم الناس‏}‏ أنهم يكونون قياماً، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة‏.‏

واللام في ‏{‏لرب العالمين‏}‏ للأجل، أي لأجل ربوبيته وتلقي حكمه‏.‏

والتعبير عن الله تعالى بوصف «رب العالمين» لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات‏.‏

واللام في ‏{‏العالمين‏}‏ للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏

قال في «الكشاف» «وفي هذا الإِنكار، والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته ب«رب العالمين» بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإِثم في التطفيف وفيما كان مثل حالهِ من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية» اه‏.‏

ولما كان الحامل لهم على التطفيف احتقارهم أهل الجَلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة، كان التطفيف لذلك منبئاً عن إثم احتقار الحقوق، وذلك قد صار خلقاً لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 7 9‏]‏ وقولُه حكاية عن شعيب‏:‏ ‏{‏وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 182، 183‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏العالمين‏}‏‏.‏

إبطال وردع لما تضمنته جملة‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 4‏]‏ من التعجيب من فعلهم التطفيف، والمعنى‏:‏ كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كتاب‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة‏.‏ وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجِباً كتْبه في كتاب الفجار‏.‏

و ‏{‏الفجار‏}‏ غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبساً بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية‏.‏

والتعريف في ‏{‏الفجار‏}‏ للجنس مراد به الاستغراق، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يُعنى به أن المطففين منهم المقصود الأول من هذا العموم، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجّه إليهم‏.‏

و«الكتابُ» المكتوبُ، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئاً تحصى فيه الأعمال، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها، وكذلك يَجري على الوجهين قولُه‏:‏ ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏ وتقدمت نظائره غير مرة‏.‏

و ‏{‏سجين‏}‏ حروف مادته من حروف العربية، وصيغته من الصيغ العربية، فهو لفظ عربي، ومن زعم أنه معرّب فقد أغرب‏.‏ روي عن الأصمعي‏:‏ أن العرب استعملوا سجين عوضاً عن سلْتِين، وسلتين كلمة غير عربية‏.‏

ونون ‏{‏سجين‏}‏ أصلية وليست مبدلة عن اللام، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه عَلَم لواد في جهنم، صيغ بزنة فِعِّيل من مادة السجن للمبالغة مثل‏:‏ الملك الضِّليل، ورجل سِكّير، وطعام حِرّيف ‏(‏شديد الحرافة وهي لذع اللسان‏)‏ سمي ذلك المكان سجيناً لأنه أشدّ الحَبْس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكن مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعاً نوعياً‏.‏ وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته‏.‏

ومحمل قوله‏:‏ ‏{‏لفي سجين‏}‏ إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه ‏{‏سجين‏}‏ أو وصفه ‏{‏سجين‏}‏ وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين، وروى الطبري بسنده حديثاً مرفوعاً يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل‏.‏

وإن حُملت الظرفيةُ في قوله‏:‏ ‏{‏لفي سجين‏}‏ على غير ظاهرها، فجَعْل كتاب الفجّار مظروفاً في ‏{‏سجين‏}‏ مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجّين، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجّين‏.‏

وجملة ‏{‏وما أدراك ما سجين‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ وجملة ‏{‏كتاب مرقوم‏}‏ وهو تهويل لأمر السجّين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم ‏{‏ما أدراك‏}‏ في سورة الانفطار ‏(‏17‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ كتاب مرقوم‏}‏ خبر عن ضمير محذوف يعود إلى ‏{‏كتاب الفجار‏}‏ والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، وهذا من حذف المسند إليه الذي اتُّبع في حذفه استعمالُ العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخبر جديد‏.‏

والمرقوم‏:‏ المكتوب كتابةً بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج‏.‏

وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ ‏{‏كتاب‏}‏ سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازاً‏.‏